كان الكلام في الهوى العِلمي عبارةً عن إشاراتٍ متناثرة في هوامش التراث، وَمَضات غزالية عميقة، وإشراقات واسطية دقيقة، وتحذيرات جوزية لطيفة، وإضاءات مهمَّة عن السلف الأوائل، لكنها لا تنتظم -في حدِّ علمي- وِفق حضور كثيف، ولا تتسق ضمن إطار رؤية كلية، وإنما تحضر أحيانًا ثم تغيب، وتشرق ثم تخفِت، قطرات تتسرّب ولا تتدفَّق، حتى جاء الجبال الثلاثة ابن تيمية وابن القيم ثم المعلِّمي ففتحوا السدود فجرى الوادي وطَمَّ…
تبعية المشي على الأقدام !
- 26 نوفمبر، 2024
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرتُ مرَّةً أن المعنى الذي يتداعى في ذهني عن بدايات طلب المعارف هو”سذاجة التصورات”، فأكثر التصورات التي تنشأ في ذهن الطالب زمن البدايات جالَت فيها يد التعديل عبر رحلته العلمية الطويلة، ولو أخذ يتملَّى الآن تصوراته القديمة حول العلوم والمفاهيم والمسائل، بل رجالات العلم لضحك كثيرًا من طرافة المفارقة بين الواقع وهجرة التصورات القديمة، ومن الطريف أن بعض النظرات تستعصي على التعديلات الجوهرية، ولا يستطيع الطالب أصلا أن يتصور خلافَها حتى بعد أن يشبَّ عن الطوق، كنظرته لشيخه الذي التقاه على صِغر، فهو لا يملِك أن يقلِّص المسافة النفسية الشاسعة والنظرة القديمة التي احتلها الشيخ يوم كان الفؤاد خاليا تصفُقُ أبوابُه بالشيخ وحده، وعمومًا بعضُ أجزاءِ هذه المسألة فيه خيرٌ كثير!
لا أودُّ أن يرتحل قلمي كثيرًا ويشتطَّ عن ما أنا بصددِه، فبعد أن عقدت فصلا عن انتفاخ “بالون” الزَّهو في مراحلِ الطَّلب، فها هنا أشير إلى عارضٍ آخرَ ومفهومٍ شائع يقرعُ سمعَ الطالب في أول سنيِّ عكوفه الأول ولا يفارقه حتى حين، فبينما بناؤه العلمي يوشك على الاكتمال من لبِنَات الشيوخ وسقوفِ المؤلفين إذا بـــ جملةٍ تقرع سمعه مرارا؛ ألا وهي: كن مستقلا، حافظ على طريقتك الخاصة، كن أنت.
ويستعمل بعض الناصحين عباراتٍ مجازية عريضة تصيب الطالب بالهلع من مِثل: ابتلعك وابتلعته، وأكلك وأكلته، وهضمك وهضمته، وتنصهر في بوتقته.. إلى آخر ما تجود به اللغات من أساليب التنفير عن الاقتباس والمشاكلة.
والأوساط الثقافية تروْجُ فيها هذه المفاهيم أكثر منها في الأوساط الشرعية الخالصة، وفي نظري أن قدرا صالحا من مقاصدِ هذه النصائح لو فُهِم على وجهه لكان مناسبا، لكنَّ كثيرا من الناس يظن الاستقلال والتميز في كل حركة وسكنة أمرا مقصودا في ذاته، وهذا من شأنه أن يحرم الطالب كثيرا من الكنوز التي يمرُّ بها في طريق مناجم الطلب، لكنه يكفُّ يده عنها طمعا في تقدير أكبر قدرٍ من الاستقلال، كما نصحوه مرارا !
لو استطعت أن أصرخ في طبلةِ أذُن أخي الطالب لقلت له: مواطن القوة في كل شيء يجب أن تأخذها وتقتبسها بكل ما تستطيع، وتضمها إلى كنانتك بكل ما تطيق، ومواطن الإعجاب – أخي الطالب – ليس من الاستقلال أن تظهر التبلُّدَ والوقارَ المفرطَ تجاهها !
ليس المستقلُّ أبدًا من يتظاهر أن يوسف عليه السلام ليس جميلا، وأن الشمس التي تملأ الأفق ليست حارقة، وأن السماء الزرقاء ليست مدهشة.. لا .. هذا ليس استقلالا، هذه”حماقة” تلبس أردية الاستقلال البالية !
خذْ واقتبسْ وانبهرْ واندهشْ وقلّدْ وحاكِ وانسجْ على منوال.. وكل استقلال يأتي بعد هذا فهو محمود.
بعد هذا .. لك أن تخالفَ الغلطَ والخطأ وتبدي اعتراضَك على مواطن العجلة والضعف ومكامن النقص دون تكلُّفٍ أيضا، لأن بعضَ الناس له مسالك خفيَّة معاكِسَة في سبيل التظاهر بالاستقلال، فينتفع بأحدٍ انتفاعا تاما ثم يتكلف وجوه المفارَقة والاختلاف، فيكون كما قال ابن تيمية عن ابن سبعين بأنَّ (أصل مادته من كلام صاحب الإرشاد وإن أظهر تنقُّصَه) .
ليتذكر السالك أن أول الإبداع محاكاة، ثم ينفردُ الإنسان بعد حين بزيّه الخاص وطريقته التي جمعت المتفرق في الجميع، وكما قيل بأن “الأسد هو عبارة عن مجموعة من الخِراف المهضومة”، والقماش هو مجموعة من الخيوط المبعثرة، فالإبداع هو تقليدٌ منظِّمٍ لعددٍ من المبدعين، وجمعٌ جادّ لمتفرقٍ في الآخرَين؛ ثم بعدها تكون خلقا آخر.. فتبارك الله أحسن الخالقين!
مرَّةً تحدث الكاتب عبدالله ابن المقفع عن تجربته في الفصاحة في نصّ من أجمل النصوص التي تروي قصة الوصول إلى نمطٍ استقلالي خاصٍ عبر المرور بمحطة استلهام التجارب السابقة، فقال: (شربت من الخطب ريًا، ولم أضبط لها رويًا، فغاضتْ ثم فاضتْ، فلا هي هي نظاما، وليست غيرها كلامًا).
فالناشئ الذي يبغي التميز ويحلمُ أن يكون له أثرٌ في أيِّ صعيد؛ عليه أن يشربَ “إبداعات” أولئك الكبار الذين سبقوه في مجالِه، ثم يدعها تغيضُ ثم تفيض؛ فلن تكون هيَ هيَ؛ ولن تكون أيضًا غيرها!
وعليه أن يجعل (خاطرَهُ كوادٍ مُطمئِنٍ قد مدّتْهُ سيولٌ جاريةٌ من شِعابٍ مختلفة، أو كمَنْ ركّبَ طيباً من أخلاطٍ متغايرةٍ من الطيبِ، فلا يُعرَفُ أرَجُ ما ركّبَهُ من أي طيبٍ هو) كما ذكر المظفَّر بن الفضل.
قيمة الاستقلال الحقيقي قيمةٌ كبرى يجب أن لا يتخلى عنها الإنسان مهما كان؛ وهي مثارُ إعجابٍ بحقّ حين تُفهم على وجهها، لكن كثيرا ما يسيء إلى هذا المفهوم الراقي أولئك الذين يشوِّهون معنى الاستقلالِ بتكلُّفِ أوجهِ المغايَرة؛ أولئك الذين يرون الناس يمشون مطمئنين على أقدامهم، فيبادرون لوضعِ أيديهم على الأرض فيمشوا على أربعْ؛ طمعا في تحصيل أكبر قدر من الاستقلال؛ يُخرجُهم من “تبعية المشي على الأقدام” !
شارك المدونة
سليمان بن ناصر العبودي
أشارك اهتماماتي المعرفية عبر هذه النافذة، محاولا تقريب المعارف وإثراء العقول بالعلم النافع.
المزيد من المقالات
- All
- تأملات في الحياة
- مسائل ومقولات
- معارف وشخصيات
- مهارات وأدوات
أكثر ما يؤتى المتميزون ذهنيًّا -في أي مجال- من ظنِّهم دومًا أنهم أكبر من الجوادّ المسلوكة والطرق المعبَّدة والمسالك المشهورة، فيقفزونها قفزًا لما يظنُّونَه أليقَ بقدراتهم وأجدرَ بِطاقاتِهم وأخلقَ بمهاراتهم، فتفوتهم بهذا الظن مكاسبُ جمّة، ولو أنهم سلكوا الطرق المعبدة المذلَّلَة ثم جعلوا امتيازهم على غيرهم من جهة الضبطِ والإتقان والتحرير والتدقيق والتعمق والتجاوز لأدركوا فضلا عظيما!
دلفت مرَّةً إلى البريد الشَّبَكي بعد انقطاعٍ عنه.. كان دخولي ذاك قُبَيل إخلادي للنوم ببضعِ دقائق، لمحتُ في أعلى البريد أن ثمة رسالة جديدة لم أفتحها، أدرت سهم النزول للأسفل، وما إن أتممتُها عن آخِرها حتى غلى الدم في عروقي
مقال فى وقته لتصحيح المفاهيم
وعدم التسرع
كنت اسمع عن البحث العلمى
وكيفية التفرد فيه
واستقلال الرأى
ولكن هذا ليس معناه أننا ننكر جمال يوسف
وشروق الشمس وضوء القمر
مقال نافع جدا.. قرأته في عرض دورتكم المباركة عن الكتابة.. ويستحق أن يدرّس ويوصى به..
هذا العبودي يكتب كأنما بقلمك ويكتب كأنما بحسّك ويكتب كأنما يعبر عمّا في مكنون ضمائرك …ماتزوّره في داخل روحك تجده مسطورا لا لإرضائك ولكن لأنّه كاتب مبدع!