دلفت مرَّةً إلى البريد الشَّبَكي بعد انقطاعٍ عنه.. كان دخولي ذاك قُبَيل إخلادي للنوم ببضعِ دقائق، لمحتُ في أعلى البريد أن ثمة رسالة جديدة لم أفتحها، أدرت سهم النزول للأسفل، وما إن أتممتُها عن آخِرها حتى غلى الدم في عروقي
مناقشة عابرة لمقولة: (عليك بالقول دون القائل).
- 12 يناير، 2016
بسم الله الرحمن الرحيم
يشيع بين المعاصرين مفهوم: (عليك بالقول دون القائل)، وتُورد أمثال العبارة في سياق المطالبة بالحكم على المقولات بمعزل تامٍّ عن أصحابها وحالِهم وما يتعلَّق بهم، وتُذكر عادةً في سبيل المبالغة في توخي العدل والإنصاف حيال الأفكار والمقولات، وفي الحقيقة أن جزءً من هذه الفكرة صحيحٌ ولا غبارَ عليه، فيجب علينا أن لا نردَّ حقًّا لأجل قائله ولو كان مبطلًا، وإنما يؤخذ الحق إن وُجِدَ من كلِّ أحد، لكن المبالغة في تطبيق هذه المقولة على تفريعات كثيرة يوقع في إشكالات علمية جمَّة.
فحينما يقول ملحد -مثلا-: (يجب أن لا نقدِّس غير المقدَّسات) فكلُّ العقلاء الذين يسمعون عبارته لا يفهمون مراده منها كما لو نطقها بحروفِها رجلٌ متديِّن، وإنما تعريف هذا الملحد للمقدسات يُلقي بظلالِه فورًا على أبعادِ معنى هذه العبارة، وذلك لأن مقالات الناس ليست معلَّقةً في الهواء تسرح في أجوافِ طير خُضر، وإنما تنتسب لمحسوسين لهم مقاصد وأغراض يدل عليها السياق.
فالذين يبالغون في معنى هذه العبارة: (عليك بالقول دون القائل) يتجاهلون كون الكلام يُفهم ابتداءً بالنظر في سِياقه، ومن السياق الذي يُغفل عنه هنا: القائل وحاله، فليست السياقات كلُّها لفظيَّة كما يُتَوهَّم، وإنما كما يقول ابن تيمية: (الحسُّ والعقل ومعرفة مراد المخاطب قرينة متصلة تضم إلى الكلام)، ولهذا لما بلغ الإمامَ أحمد عن ابن أبي قتيلة أنه ذُكر عنده أهل الحديث بمكة، فقال: قوم سوء. فقام الإمام أحمد، وهو ينفض ثوبه، ويقول: (زنديق، زنديق، زنديق) ودخل بيته. فلم يستصحب أبو عبدالله رحمه الله في إطلاق هذا الحكم على ابن أبي قتيلة عبارتَه وحدها ولم يجعل الحكم على المقولة بمعزل عن حال القائل، وإنما نفذ لمراده منها، لذا قال ابن تيمية بعدما أورد حكم أحمد على ابن أبي قتيلة: (إنه عرف مغزاه!)، وقال ابن القيم في مدارج السالكين مبينا استحالة انفكاك الحكم على القول عن الحكم على القائل: (الكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه)، وأشار لهذا المعنى بحروفٍ قريبة منه أيضا أبو العباس في الصارم المسلول.
وحتى الذين يتحمَّسون لهذه القاعدة ويكررونها؛ هم لا يطبقونها في كل الأحوال، وإنما يستصحبون حال القائل كثيرًا، لأنه معنى فطري يتعذَّر نفيُه وتصعب مكابرته، بل حتى الطرائف والنوادر إنما تُستحسن إذا أضيفت لقائليها واستُصحبت أحوالهم، فربما استظرف الناس عبارةً أضيفتْ لأحد الظرفاء، ولو نُقِلت عن سواه لتبارَدُوها ولم يستظرفوها، وإنما حال القائلين يلقي بظلاله حتمًا على المقولات، وأشار إلى هذا المعنى أبو عثمان الجاحظ فقال -في كتابه البخلاء-: (ولو أن رجلا ألزَقَ نادرةً «بأبي الحارث جمّين»، و«والهيثم بن مطهر»، و«بمزبّد»، و«ابن أحمر» ثم كانت باردةً، لجَرَتْ على أحسن ما يكون، ولو ولّد نادرة حارّة في نفسها، مليحةً في معناها، ثم أضافها إلى «صالح بن حنين»، وإلى «ابن النواء»، وإلى بعض البُغَضاء، لعادت باردةً، ولصارت فاترةً، فإن الفاتر شرٌّ من البارد، وكما أنك لو ولّدت كلامًا في الزهد، وموعظة الناس، ثم قلت: هذا من كلام «بكر بن عبد الله المزني»، و«عامر بن عبد قيس العنبري»، و«مؤرق العجلي»، و«يزيد الرقاشي»؛ لتضاعف حسنه، ولأحدث له ذلك النسب نضارةً ورفعةً لم تكن له، ولو قلتَ: قالها: «أبو كعب الصوفي» أو «عبد المؤمن» أو «أبو نواس» الشاعر، أو «حسين الخليع»؛ لما كان لها إلا ما لها في نفسها، وبالحريِّ أن تغلَّطَ في مقدارها، فتبخس من حقّها)، وما ذكره الجاحظ هنا هو معنى فطري لا يتعارض مطلقًا مع تطبيقات الناس وطرائق تفكيرهم، وإنما يتعارض فقط مع تنظيراتِ بعض المعاصرين المبالِغةِ في التجريد!
شارك المدونة
سليمان بن ناصر العبودي
أشارك اهتماماتي المعرفية عبر هذه النافذة، محاولا تقريب المعارف وإثراء العقول بالعلم النافع.
المزيد من المقالات
- All
- تأملات في الحياة
- مسائل ومقولات
- معارف وشخصيات
- مهارات وأدوات
ذكرتُ مرَّةً أن المعنى الذي يتداعى في ذهني عن بدايات طلب المعارف هو"سذاجة التصورات"، فأكثر التصورات التي تنشأ في ذهن الطالب زمن البدايات جالَت فيها يد التعديل عبر رحلته العلمية الطويلة، ولو أخذ يتملَّى الآن تصوراته القديمة حول العلوم والمفاهيم والمسائل
الحب الوافد على القلب هو كالنار الصغيرة التي اشتعلت في الموقد، وحطبُها التواصل وتتبع الأخبار وتقليب الذكريات والركون للأفكار الخيالية والأماني البعيدة والأهواء الحالمة! فمن رام التعافي السريع منه فليقطع عنه هذا "المدد" من الحطب، وليسأل الله بإلحاح صادق واستغاثة خاشعة أن يهوّن عليه الألم "الوقتي" الذي سيشتعل في جوفه حالما تنطفئ هذه النار التي اشتعلت بلا قصد، وحينما تمسي هذا النار رمادًا فسينفخها بكلتا شفتيه وهو يتعجب…