مزايا العمر!

بسم الله الرحمن الرحيم

حينما وقف على حافَة المرحلة التي تسمى منتصف العمر، ومع شهوده أفولَ سنوات الشباب الأولى، وبعد مُضِيّه عقدين في طريق طلب العلوم والمعارف، التفتَ إلى الوراء وحكى لي شيئًا من تجربته الأثيرة مع تبدّل قواه وتحولاتها قائلا: كنت في زمن الصِّبا وفي بدايات الطلب ألقى عَناءً وعَنَتًا في سبيل الفهم، وبالمقابل كنت أجد تذليلًا عجيبًا ويُسرًا في طريق الحفظ، وأنا اليوم لا يكاد يشكل عليَّ شيء مما أقرؤه من مفاهيم العلم البسيطِ منها والمركَّب، ولكني بالمقابل أجد عَناءً واسعًا في الضبط، فما أقرؤه اليوم يستقر على الفور في ذاكرةٍ قصيرةِ المدى، ثم يوشك أن يجرفه بعيدًا طوفان النسيان.

ذكَّرتني هذه التجربة الصادقة بعبارة التابعي علقمة بن قيس النخعي: (ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في ورقة!)، فعلقمة يحكي أيضًا قصة التغيرات الطارئة على قدراته الشخصية في التذكر والاستحضار، ففرص الحفظ تتسع في أوائل العمر ثم تضيق شيئًا فشيئًا، وفرص الفهم تضيق في أوائل العمر ثم تتسع شيئًا فشيئًا.

مكثت أتأمل مَلِيًّا في ظلال هذه التجارب الإنسانية وتجليَّاتها، ففي كل مرحلة من مراحل حياتنا ثمة قوى تتوهج، وأخرى تخبو، وثالثة توشك على الانطفاء، فما كان خابِيًا في شَرخ الشباب، ربما يتوارى وينطفئ في زمن الكهولة، وما كان متوارِيًا مستخفيًا ربما يولد ويتوهَّج بعد الانطفاء.

ولا يقتصر ذلك على تنامي مَلَكةِ الفهم وضمورِ موهبة الحفظ، فالإنسان معرّض في حياته للدخول في أطوارٍ شتى، ومهيءٌ على الدوامِ لأن يركب طبقًا عن طبق، فهو لا يكاد ينقطع عن كافة التحولات بأنواعها، وفي كل مرحلة يشهد نموًّا لبعض ملكاتِه وخبوًّا وتراجعًا لبعضها، وهو لجهله لا يعرف لنفسه إلا تاريخَ ميلاد وحيد، ولو دقَّقَ الملاحظة في مراحل حياته لعلِم أنه يولد مرارًا، ويواري بعض أجزائه مرارًا، وكما يقول الرافعي: (يموت الحي شيئًا فشيئًا، وحين لا يبقى فيه ما يموت، يقال: مات!).

والظفرُ بسائرِ مزايا العمر واحتشادها في مرحلةٍ معينة ما هي إلا إحدى الخيالات الشعرية العذبة التي تجول في أذهان الناس، ولكن لا وجود لها في الواقع، ومِمَّا يستملح من التعبير عن هذه الخيالات الحالمة ما روي من الشعر اليسير المنقول عن الشيخ ابن دقيق العيد، ففي طيَّاته هذان البيتان اللطيفان:

تمنَّيتْ أنَّ الشيب عاجَلَ لِمَّتي … وقرَّب مِنِّي في صِباي مَزارَه
لآخذَ من عِصرِ الشباب نشاطَه … وآخذَ من عَصر المشيب وقارَه

فجلالة (الوقار) والحكمة، وفورة (النشاط) والقدرة هما مزيتان في مرحلتين منفصلتين من مراحل العمر! وقد تمنى ابن دقيق رحمه الله أن يجمعهما في إهابِ مرحلة واحدة!

وللشاعر الموهوب إسماعيل صبري قطعة أدبية ذهبية في حكاية القوى المتبدلة والآفلة:

لم يدر طعم العيشِ شبـ ـــانٌ ولم يدركْه شِيب!
جهلٌ يضلُّ قـــوى الفتى فتطيش والمرمى قريب
وقوى تخــــــورُ إذا تَشَبَّــــ ـثَ بالقوى الشيخ الأريب
بينا يقال كَبا المغفَّــــــ ـلُ إذ يقالُ خبا اللبيب
أواهُ لو علم الــــــــــشبا بُ وآهِ لو قدرَ المشيب!

وهكذا تتبدل القوى الإنسانية: تمدُّدٌ في الذهن يقترن بوهَن في البدن، وشابٌّ يقدر ولا يعلم، وشيخ يعلم ولا يقدر، وقوى تَحِلُّ وأخرى تغادر، وطروء هذه التغيرات في القوى ضربة لازب لا مناص للأحياء منها، وهي من دلائل الضعف الإنساني.

وإذا كانت الملكات والقوى تأفل سريعًا وتتبدل حتى لا يكادُ يحسُّ بها صاحبها، فالحصيف هو من يمنح كل مرحلةٍ حقَّها من الاغتباط والاغتنام، ويضنُّ بنفسه من الاسترسال وتطلُّب العيش في كَنَفِ مرحلةٍ لاحقة! وعلى سبيل المثال الشاب الذي يملك القدرة يستنير بمن يملك الرأي ثم يغتنم فورَة طاقته، كما تقول حفصة بنت سيرين: (يا معشر الشباب خذوا من أنفسكم وأنتم شباب، فإني ما رأيت العمل إلا في الشباب)، وصاحب الذاكرة المتوهجة يملؤها بالعلم النافع؛ لشعوره أنها قد تنطفئ وتضمحلّ، وهكذا كل بابٍ يندلق من أبواب من الخير والبرِّ والمعروف، وكما قال خالد بن معدان: (إذا فُتِحَ لأحدكم بابُ خيرٍ فليسرعْ إليه، فإنه لا يدري متى يُغلق عنه)، وسائر مزايا العمر ينبغي أن تُستقبل بحفاوةٍ بالغةٍ فهي ضيفٌ عابرٌ يجلِّله الحياء يوشك أن يَلُمَّ رحله ويرحل!

شارك المدونة

سليمان بن ناصر العبودي

سليمان بن ناصر العبودي

أشارك اهتماماتي المعرفية عبر هذه النافذة، محاولا تقريب المعارف وإثراء العقول بالعلم النافع.

1 تعليق
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات
مستخدم(غير معروف)
3 ثواني

ما أجمل الفكرة وما أحسن الاقتباسات بارك الله لكم
تذكّر بأبي فراس الحمداني كأنه قرأ “مزايا العمر” ففخر بمزايا عمرين:
“ولا أرضى الفتى ما لم يكمّل..برأي الكهل إقدامَ الغلامِ”
أو قوله “إن لم تكن طالت سِنيّ فإن لي..رأي الكهول .. ونجدةَ الشبّانِ”
والعزاء لمن جهل العمر والمزية!

المزيد من المقالات

  • All
  • تأملات في الحياة
  • مسائل ومقولات
  • معارف وشخصيات
  • مهارات وأدوات
طاقات مهدَرة!

دلفت مرَّةً إلى البريد الشَّبَكي بعد انقطاعٍ عنه.. كان دخولي ذاك قُبَيل إخلادي للنوم ببضعِ دقائق، لمحتُ في أعلى البريد أن ثمة رسالة جديدة لم أفتحها، أدرت سهم النزول للأسفل، وما إن أتممتُها عن آخِرها حتى غلى الدم في عروقي

26 نوفمبر، 2024
تبعية المشي على الأقدام !

ذكرتُ مرَّةً أن المعنى الذي يتداعى في ذهني عن بدايات طلب المعارف هو"سذاجة التصورات"، فأكثر التصورات التي تنشأ في ذهن الطالب زمن البدايات جالَت فيها يد التعديل عبر رحلته العلمية الطويلة، ولو أخذ يتملَّى الآن تصوراته القديمة حول العلوم والمفاهيم والمسائل

26 نوفمبر، 2024
كرامة القلب! (جواب عابر عن دواء العشق)

الحب الوافد على القلب هو كالنار الصغيرة التي اشتعلت في الموقد، وحطبُها التواصل وتتبع الأخبار وتقليب الذكريات والركون للأفكار الخيالية والأماني البعيدة والأهواء الحالمة! فمن رام التعافي السريع منه فليقطع عنه هذا "المدد" من الحطب، وليسأل الله بإلحاح صادق واستغاثة خاشعة أن يهوّن عليه الألم "الوقتي" الذي سيشتعل في جوفه حالما تنطفئ هذه النار التي اشتعلت بلا قصد، وحينما تمسي هذا النار رمادًا فسينفخها بكلتا شفتيه وهو يتعجب…

26 نوفمبر، 2024