دلفت مرَّةً إلى البريد الشَّبَكي بعد انقطاعٍ عنه.. كان دخولي ذاك قُبَيل إخلادي للنوم ببضعِ دقائق، لمحتُ في أعلى البريد أن ثمة رسالة جديدة لم أفتحها، أدرت سهم النزول للأسفل، وما إن أتممتُها عن آخِرها حتى غلى الدم في عروقي
مسائل الفقه معلومة لا ظنية!
- 8 يوليو، 2023
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.
فقد سألني أحد الأفاضل عن وجه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمات الله- في مطلع كتاب الاستقامة أن مسائل الفقه معلومة، وليس عامتها من باب الظنون، واستشكل هذا من الشيخ، فأجبته بما يلي:
مرحبا بالشيخ المفيد، وحياك الله، أما بعد:
فهذا الموضع من كلام ابن تيمية مرّ بي حينما كنت أقرأ في كتاب الاستقامة، واستشكلته نحو استشكالِكم ثم تجاوزته دون تأمل وتبيّن، ثم عدتُّ إليه الآن بعد سؤالك وإيرادك، والذي ظهر لي أن كلام الشيخ في هذا الموضع يرتفع عنه الإشكال بالنظر إلى أربعة أمور:
الأول: أن العلم المقصود يتناول أمرين:
أ.اليقين .
ب.الاعتقاد الراجح. وأن تخصيصه بالقطعيات هو اصطلاح حادث.
وهذا التفريق ذكره ابن تيمية عن أبي الخطاب قريبًا من كلامه عن كون أحكام العبادات معلومة لا مظنونة، ولم يعقِّب عليه، فقال :
(وقد تجيب طائفة أخرى كأبي الخطاب وغيره عن هذا السؤال بأن العلم يتناول اليقين والاعتقاد الراجح، كقوله تعالى: [فإن علمتموهن مؤمنات]. وأن تخصيص لفظ العلم بالقطعيات اصطلاح المتكلمين).
الثاني: أن كلام شيخ الإسلام ليس المقصود به عامة الدارسين للفقه، ولا عامة المتفقهة وإن سادوا في مذاهبهم، وإنما حكمه هذا يختص بطائفة من أكابر المجتهدين، أما غالب المتفقهة والمنتسبين إلى الفتيا والقضاء فينصُّ شيخ الإسلام على أن غالب ما عندهم من أحكام الفقه ظنون وتقليد. وهذا نص كلامه -رحمه الله- فقال:
(فأما غالب الأفعال مفادها وأحداثها فغالب أحكامها معلومة ولله الحمد، وأعني بكونها معلومة أن العلم بها ممكن، وهو حاصل لمن اجتهد واستدل بالأدلة الشرعية عليها، لا أعنى أن العلم بها حاصل لكل أحد، بل ولا لغالب المتفقهة المقلدين لأئمتهم، بل هؤلاء غالبُ ما عندهم ظن أو تقليد) .
ثم ذكر شيخ الإسلام في ذلك مراتب المقلدة لأئمة المذاهب وجعلهم في أربعة مراتب وكل هؤلاء المقلدة بمراتبهم الأربعة خارجون عنده عن معرفة غالب الأحكام الفقهية بيقين، فقال:
(الرجل: أ-قد يكون يرى مذهبه بعض الأئمة وصار ينقل أقواله في تلك المسائل وربما قربها بدليل ضعيف من قياس أو ظاهر هذا إن كان فاضلا.
ب-وإلا كفاه مجرد نقل المذهب عن قائله إن كان حسن التصور فهما صادقا.
ج-وإلا لم يكن عنده إلا حفظ حروفه إن كان حافظا.
د-وإلا كان كاذبا أو مدعيا أو مخطئا. ولا ريب أن الحاصل عند هؤلاء ليس بعلم، وهذا الأصل الذي ذكرته أصل عظيم فلا يصد المؤمن العليم عنه صاد فإنه لكثرة التقليد والجهل والظنون في المنتسبين إلى الفقه والفتوى والقضاء استطال عليهم أولئك المتكلمون حتى أخرجوا الفقه الذي نجد فيه كل العلوم من أصل العلم لما رأوه من تقليد أصحابه).
الثالث: أن مراد الشيخ ليس عدد المسائل المذكورة في كتب الفقه: فكثير من المسائل الظنية المدوَّنة في الكتب قليلة الوقوع نادرة الحدوث، وإنما مراده أن اليقين متحصِّل في غالب المسائل الواقعة في حياة الناس، وهذا التوجيه نعرفه من قول الشيخ:
(من المعلوم أن عامة أحكام الفرائض معلومة بل منصوصة بالقرآن، فإن الذي يفتي الناس في الفرائض قد يقسّم ألف فريضة منصوصة في القرآن مجمعًا عليها، حتى تنزل به واحدة مختلف فيها بل قد تمضى عليه أحوالٌ لا تجب في مسألة نزاع، وأما المسائل المنصوصة المجمع عليها فالجواب فيها دائم بدوام الموتى، فكل من مات لا بد لميراثه من حكم، ولهذا لم يكن شيء من مسائل النزاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مع وجود الموت والفرائض دائما).
ثم ضرب الشيخ -رحمه الله- مثالا آخر بالحيض فقال:
(بل باب الحيض الذي هو من أشكل الفقه في كتاب الطهارة وفيه من الفروع والنزاع ما هو معلوم ومع هذا أكثر الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال النساء في الحيض معلومة ومن انتصب ليفتي الناس يفتيهم بأحكام معلومة متفق عليها مائة مرة حتى يفتيهم بالظن مرة واحدة، وإن أكثر الناس لا يعلمون أحكام الحيض وما تنازع الفقهاء فيه من أقله وأكثره وأكثر سنين الحيض وأقله ومسائل المتحيرة فهذا من أندر الموجود، ومتى توجد امرأة لا تحيض إلا يومًا، وإنما في ذلك حكايات قليلة جِدًّا مع العلم بأن عامة بنات آدم يحضن).
فأنت تلاحظ أن شيخ الإسلام من خلال أمثلته هذه يذكر أن غالب المسائل الفقهية التي تقع عند الناس معلومة لا مظنونة، ولا يقصد أن غالب المسائل الفقهية المدوَّنة في الكتب كذلك.
الرابع: أن كلام الشيخ كان في سياق مساجلة المتكلمين الذي أرادوا أن يعطلوا الفقه عن مسمّى العلم ويجعلوه كلَّه من باب الظنون، بينما هم يجعلون مسائل المتكلمين علمًا، ثم هم يرتِّبون على ذلك مسائل: منها إطلاق أحكام التكفير لمن يخالف مسائل المتكلمين النظرية، بينما يهوِّنون مرتبة الخلاف في مسائل الفقه العملية، ولا يرتبون عليها شيئًا، وأنه يتعذر فيها تحصيل اليقين أصلا.
فقال أبو العباس قريبًا من هذا الموضع:
(المقصود هنا ذكر أصلين هما: بيان فساد قولهم الفقه من باب الظنون، وبيان أنه أحق باسم العلم من الكلام الذي يدعون أنه علم وأن طرق الفقه أحق بأن تسمى أدلة من طرق الكلام.
والأصل الثاني: بيان أن غالب ما يتكلمون فيه من الأصول ليس بعلم ولا ظن صحيح بل ظن فاسد وجهل مركب، ويترتب على هذين الأصلين منع التكفير باختلافهم في مسائلهم وأن التكفير في الأمور العملية الفقهية قد يكون أولى منه في مسائلهم).
فهي مقارنة صحيحة من الشيخ بين علم الفقه وعلم الكلام من جهة: درجة اليقين، وإمكان تحصيل اليقين، ومدى الأثر المترتب.
وبهذا يرتفع الإشكال مِن كلامِ الشيخ بكلامِ الشيخ، والله تعالى أعلم وأحكم.
شارك المدونة
سليمان بن ناصر العبودي
أشارك اهتماماتي المعرفية عبر هذه النافذة، محاولا تقريب المعارف وإثراء العقول بالعلم النافع.
المزيد من المقالات
- All
- تأملات في الحياة
- مسائل ومقولات
- معارف وشخصيات
- مهارات وأدوات
ذكرتُ مرَّةً أن المعنى الذي يتداعى في ذهني عن بدايات طلب المعارف هو"سذاجة التصورات"، فأكثر التصورات التي تنشأ في ذهن الطالب زمن البدايات جالَت فيها يد التعديل عبر رحلته العلمية الطويلة، ولو أخذ يتملَّى الآن تصوراته القديمة حول العلوم والمفاهيم والمسائل
الحب الوافد على القلب هو كالنار الصغيرة التي اشتعلت في الموقد، وحطبُها التواصل وتتبع الأخبار وتقليب الذكريات والركون للأفكار الخيالية والأماني البعيدة والأهواء الحالمة! فمن رام التعافي السريع منه فليقطع عنه هذا "المدد" من الحطب، وليسأل الله بإلحاح صادق واستغاثة خاشعة أن يهوّن عليه الألم "الوقتي" الذي سيشتعل في جوفه حالما تنطفئ هذه النار التي اشتعلت بلا قصد، وحينما تمسي هذا النار رمادًا فسينفخها بكلتا شفتيه وهو يتعجب…