كان الكلام في الهوى العِلمي عبارةً عن إشاراتٍ متناثرة في هوامش التراث، وَمَضات غزالية عميقة، وإشراقات واسطية دقيقة، وتحذيرات جوزية لطيفة، وإضاءات مهمَّة عن السلف الأوائل، لكنها لا تنتظم -في حدِّ علمي- وِفق حضور كثيف، ولا تتسق ضمن إطار رؤية كلية، وإنما تحضر أحيانًا ثم تغيب، وتشرق ثم تخفِت، قطرات تتسرّب ولا تتدفَّق، حتى جاء الجبال الثلاثة ابن تيمية وابن القيم ثم المعلِّمي ففتحوا السدود فجرى الوادي وطَمَّ…
إذا نقصت الإحاطة خفت الشروط
- 10 ديسمبر، 2015
بسم الله الرحمن الرحيم

رأيت متخصصين في بعض الفنون يشحُّون في الثناء على الكتب التي في أعماق تخصصاتهم، بينما يطالع أحدهم كتابًا أو يسمع مادةً في غير فنِّه، فيمطرها بوابل الثناء، وهذا يفيدك أن الثناء إذا وَردَك من متخصصٍ في مجالٍ ما فسيكون -إذا خلا من عوارض أخرى كالمجاملة- دقيقًا! وذلك نحو ثناء أبي محمد ابن حزم على سعة علم الإمام محمد بن نصر بالآثار فقال:
(لو قال قائل ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر لما أبعد عن الصدق)، وهذه الشهادة العريضة يعرف لها العارفون وزنَها وذلك لخروجها من قلمِ رجلٍ ممتلئ بمعرفة الآثار كأبي محمد؛ فحتمًا لن يرسل الدعاوى الهائلة دون فحصٍ لمدلولاتها! لذا تلقَّفَ هذه الشهادة العريضة الإمام الذهبيُّ واحتفى بها قائلا: (هذه السعة والإحاطة ما ادعاها ابن حزمٍ لابن نصر إلا بعد إمعان النظر في جماعة تصانيفَ لابن نصر!).
ومن جهةٍ أخرى إن رأيت الثَّلب والتنقُّصَ من متخصصٍ على كتبٍ أو أعلامٍ داخلَ محيطَ تخصصه وما أفنى فيه وقته وزمانه، فربما كانت ملحوظات علميةً دقيقةً، وربما كانت خارجةً من رَحِمِ تطلُّبِ الكمال التام، فهي تلائم حال قائلِها أكثرَ من سامِعِها! لذا حين قال أبو المعالي الجويني عن ابن قتيبة بأنه (هَجَّامٌ ولوجٌ فيما لا يحسنه)، فتتبعه الحافظ ابن حجر وقال: (كأنه يريد كلامه في الكلام) أي في علم الكلام؛ ثم علَّقَ المحقق السيد صقر بقوله: (ولابن قتيبة كلامٌ عن هذا العلمِ، لا يروقُ في نظر رجلٍ انغمس فيه من فَرَقه إلى قَدَمِه)، فالمنغمس في علمٍ ما من فرَقِه إلى قَدَمِه حتما ستضيق في نظره دائرةُ المبدعين فيه، وربما مع شدة التوغل في فَنٍ ما تضيق دائرة الانبهار هذه حتى لا تَسَع إلا رجلا واحدًا، فكما يقول محمد بن إسماعيل (ما استصغرت نفسي عند أحد إلى عند ابن المديني!)، وهكذا أنتَ رأيتَ –رحمك الله- أنه كلما نقصت الإحاطة خفَّتِ الشروط!
شارك المدونة
سليمان بن ناصر العبودي
أشارك اهتماماتي المعرفية عبر هذه النافذة، محاولا تقريب المعارف وإثراء العقول بالعلم النافع.
المزيد من المقالات
- All
- تأملات في الحياة
- مسائل ومقولات
- معارف وشخصيات
- مهارات وأدوات
أكثر ما يؤتى المتميزون ذهنيًّا -في أي مجال- من ظنِّهم دومًا أنهم أكبر من الجوادّ المسلوكة والطرق المعبَّدة والمسالك المشهورة، فيقفزونها قفزًا لما يظنُّونَه أليقَ بقدراتهم وأجدرَ بِطاقاتِهم وأخلقَ بمهاراتهم، فتفوتهم بهذا الظن مكاسبُ جمّة، ولو أنهم سلكوا الطرق المعبدة المذلَّلَة ثم جعلوا امتيازهم على غيرهم من جهة الضبطِ والإتقان والتحرير والتدقيق والتعمق والتجاوز لأدركوا فضلا عظيما!
دلفت مرَّةً إلى البريد الشَّبَكي بعد انقطاعٍ عنه.. كان دخولي ذاك قُبَيل إخلادي للنوم ببضعِ دقائق، لمحتُ في أعلى البريد أن ثمة رسالة جديدة لم أفتحها، أدرت سهم النزول للأسفل، وما إن أتممتُها عن آخِرها حتى غلى الدم في عروقي