الحب الوافد على القلب هو كالنار الصغيرة التي اشتعلت في الموقد، وحطبُها التواصل وتتبع الأخبار وتقليب الذكريات والركون للأفكار الخيالية والأماني البعيدة والأهواء الحالمة! فمن رام التعافي السريع منه فليقطع عنه هذا "المدد" من الحطب، وليسأل الله بإلحاح صادق واستغاثة خاشعة أن يهوّن عليه الألم "الوقتي" الذي سيشتعل في جوفه حالما تنطفئ هذه النار التي اشتعلت بلا قصد، وحينما تمسي هذا النار رمادًا فسينفخها بكلتا شفتيه وهو يتعجب…
فناء اللذة
- 8 يونيو، 2020
بسم الله الرحمن الرحيم
حتى لو لم يكن هناك عقاب أخروي، فالانهماك في اللذات الجسديَّة -خلافا لما يُتَوَهَّم بادي الرأي- هو أقصرُ طريقٍ للتَّعاسَةِ الرُّوحيَّة، وهو الحبلُ الغليظُ الملائم لخنق رقبةِ الامتياز البشري عن البهائم، وهذه الشهوات تموت في نفس الإنسان وتفنى مرتين:
فهي أولا تَضمحلُّ نشوتُها في أوحال الاعتياد، وتتلاشى لذتها في حضيضِ التّكرار، ويسري في متعتها المتخيَّلة دبيبُ الفَناء، وذلك كلما أوغَل الإنسان في تلافيفِها، وتحقَّقَ اقتداره على مواقعتها، وهذه الحقيقة السافرة من المستحسن أن يعرفها جيدا الشاب المتعفف في أول الطريق، فربما كانت عاصِمًا له من الانزلاق في بئر الرغبات السحيق الذي لا قعر له، وهي حقيقةٌ عميقةٌ تغيب عن أذهانِ كثيرٍ من المتباعدين عن حضيض الشهوات المحرمة إما عِفَّةً أو عجزا، فيزين الشيطان حياةَ الإيغال في الشهوات للعفيفِ أضعافَ تزيينها للفاجر، فما عُهِدَ أن الصيَّادَ يطعم السمكة وهي في الشبكة، ولستُ أعني هنا ما تتركه الشهوات المحرَّمة على النفوس البشرية من طمس أرجائها وإطفاء مصابيحها وتكدير صفائها فحسب، وإنما أعني أن اللذَّةَ نَفسَها تفقد مع فرط الانغِماس رونقها السابق وبهجتَها الأولى شيئا فشيئا، إلى أن تفسد على الغارقِ في أوحالها حرامَها وحلالَها، فلا يَكادُ يجد فيهما لذة.
وإذا أَجَلْتَ نظرةً عَجلى في أَدَبِ المجّان من الأدباء والشعراء وَجَدتَّ بين طيَّاتِه بعضَ الإشاراتِ العابرة المتناثرة التي ترسم لوحة حزينةً من عمق الشعور بالندم واستبدادِ الإحساس بالتيه وألمِ فُقْدان المعنى، فعلى سبيل المثال فهذا الشاعر الإنجليزي الشهير بايرون كان غارقًا في إشباع شهوات الجسد إلى أذنيه، كتب في مذكِّراتِه وهو في سن الثالثة والعشرين المبكرة هذه الأحرف الحزينة: (لم يعد للحياة معنى، لقد خضتها حتى الثمالة، وجبت أقاصيها وأغوارها، ونهلت من ملذاتها بلا حساب، لأجد أن ليس على الأرض من هو أحقر من الإنسان، لقد سئمت الرذيلة، وجفت رغباتي، فما عاد يغريني من الحياة نبيذها ولا جنسها[1]).
وهذا الشاعر الدمشقي المعاصر الذي ملأ شعرَه بتصوير لذات الشهوات، يلخِّص بوضوح تجربته الخائبة في مداواة الأحزان النفسية بإشباع رغبات الجسد، ويبوح لقارئه أن ذلك كان مجرّد مسكِّنٍ وقتي لم يبدِّد عواصف الأزمات الروحية العميقة:
الجنس كان مسكِّنا جربته
لم ينهِ أحزاني ولا أزماتي
والحب أصبح كله متشابها
كتشابه الأوراق في الغاباتِ
وهي ثانيا تفنى بعد مواقعتها، ولا يبقى منها بعد تلك اللحظات العابرة إلا آثارها الثقيلة، فهذا الشاعر العربي القديم أبو نُواس الذي ترك حبلَ شهواتِه ملقًى على غارِبه، حين أراد أن يلخِّصَ هذه الحياة الموغلة في تتبع اللذات واستقصائها، استعرض في ذهنه شريط حياتِه ونَخَلَه فلم يبق في ذاكِرَتِه منه إلا مجرد (آثام) ثقيلة ملقاةٍ على العاتِقين، يقول النواسي معترفًا بكل أسى:
ولقد نَهزت مع الغواة بدَلوهم
وأسمت سرح اللحظ حين أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه
فإذا عُصارة كل ذاك أثام
ويستحسن البلاغيون كثيرا قولَ أبي نواس هنا: (ما بلغ امرؤ بشبابه) دون تفصيل منه وبيان لتلك الأفاعيل، ففي هذه الإبهام المقصود إطلاقٌ لطائر الخيال من قفصه ليحلق بعيدا، وليقع على محتَمَلاتٍ كثيرةٍ من صورِ الانغماسِ في اللذات، ومع ذلك فلم يبقَ من تلك اللذائذ الكثيرة في ذاكرة النَّواسي إلا مجرد آثام!
تساؤل:
وربما ينبعث ها هنا تساؤل منطقي: ما دامت الشهوات المحرمة تفنى لذتها في حضيض التكرار والاقتدار، وتستحيل بعد مبارحتها عبئا ينقض الظهر، وتفسد لذة الحرام والحلال، فلماذا لا يعود أولئك الذين وصلوا آخرَ النفق المظلم بعد أن أدركوا أنه حالكُ السَّواد؟ ولماذا يزداد انغماس كثير منهم في هذا الطريق؟ ولماذا هو يتوغل باستمرار ويتطلب اللذة المفقودة في انتهاك محظورات جديدة بعد أن سَلَبَ الاعتيادُ من لذائذه السابقة ثيابَ المتعة؟
وعندي أن الجواب مُتَضَمَّن في الكلمة المأثورة المنسوبة لأبي بكر رضي الله عنه: (هذه الأجساد إما قفص الطيور أو اصطبل الدواب)، والأرواح طيور خُضر تختنق بروائح الاصطبلات، وهذا الباب إذا فُتح على مصراعيه مرةً واحدةً سَقَطَتْ عُروته على الفور، وأخذ يَصطَفق لكل نَسْمةِ هواءٍ خفيفة، وما عاد ينغلق كما كان إلا بصعوبة بالغة وعزيمة تامة، وما أشدَّ الوجع أن يجتمع على الإنسان: جفاف المتعة، وانحسارُ اللذة، وتمدُّدُ الرغبة، واختناق الروح ومواتها داخل أنقاض الجسد فما تستطيع التحليق في الملكوت! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تصوير هذه الحال المؤلمة: (إن كان قادرا أقبل على الشهوات، وأسرف في التذاذه بها ولا يمكنه تركها، ولهذا تجد القوم من الظالمين أعظم الناس فجورا وفسادا وطلبا لما يروحون به أنفسهم من مسموع ومنظور ومشموم ومأكول ومشروب، ومع هذا فلا تطمئن قلوبهم بشيء من ذلك[2]).
ولذلك فإنَّ كلَّ من أراد أن ينعش أفراحَ روحه بذكر الله تعالى والأنس به وبكلامه، كانت أول خطوةٍ في هذا المضمار هي الكفّ عن الاسترسال وراء الشهوات المحرمة، وغضّ البصر عن ما يخنق الروح بحبال المادّة الفانية، والصبرُ على ذلك الطريق، واحتساب الثواب فيه، فإذا بالروح المخنوقة تنبض وتتردد فيها الأنفاس، وتنحلُّ من عِقالِها، وتنفكُّ من قِيادِها، وتعود للحياةِ بهجتها وبريقها، وَمَنْ عَكَس الوِجهة وجعل اللذة الفَانية رائدَه ودليله، فإنها تعتقله أولا، ثم تفنى في جوفه ثانيا، ثم تُنْشِبُ أظفارَها الطويلة في قَصَبة روحه ثالثا!
________
[1] كتاب مشردون، أندرو شافر، ترجمة منير عليمي (33 – 34)
[2] جامع الرسائل (2: 362)
شارك المدونة
د.سليمان بن ناصر العبودي
أشارك اهتماماتي المعرفية عبر هذه النافذة، محاولا تقريب المعارف وإثراء العقول بالعلم النافع.
المزيد من المقالات
- All
- تأملات في الحياة
- مسائل ومقولات
- معارف وشخصيات
- مهارات وأدوات
لستُ أهوِّن من شأن الصفات الجينيَّة التي تولَد مع الإنسان، لكنِّي أزعم أن الشخصيات الإنسانية تتأثر بالظروف التي تكابدها تأثُّرًا عظيمًا، تمرُّ عليها عواصف مختلفة تجتال سكينتها، وتغتال ثباتها، وتعيد بناءَها، وترمِّم أجزاءَها، ومن ثَمَّ تحوِّلها إلى شخصياتٍ أخرى تكاد تفارق بها جبلَّتَها الأصليَّة، وتوشك معها أن تبرح طبيعتها الأولى.
من الحقائق الطبيعية أن الجبال لا توجد فرادى، لا يكاد ينشأ الجبل وحدَه في الصحراء المطمئنة، وإنما كثيرًا ما تتعاضد ظروف أرضية مختلفة تنشأ عنها سلسلة من المرتفعات كجبال السروات.