براءَة الجينات

بسم الله الرحمن الرحيم

لستُ أهوِّن من شأن الصفات الجينيَّة التي تولَد مع الإنسان، لكنِّي أزعم أن الشخصيات الإنسانية تتأثر بالظروف التي تكابدها تأثُّرًا عظيمًا، تمرُّ عليها عواصف مختلفة تجتال سكينتها، وتغتال ثباتها، وتعيد بناءَها، وترمِّم أجزاءَها، ومن ثَمَّ تحوِّلها إلى شخصياتٍ أخرى تكاد تفارق بها جبلَّتَها الأصليَّة، وتوشك معها أن تبرح طبيعتها الأولى.

إذا أمكن أن نُشَبِّه الجينات الأولى بالماء السائل، فلا شكَّ أن الظروفَ المحيطة هي القوالب الثلجية التي تتشكَّل السوائل على منوالِها، فمن يتوهّم أنه قَبَض على النسخة النهائية من شخصيَّته فإنه سيرصد لنفسه حتمًا تشكلاتٍ مستمرَّةً حسب القوالب والظروف الجديدة، ومن ظَنّ أنه عَرَف شخصيَّته جَيِّدًا واستَنامَ لذلك الشعور فستوقظه رياحُ التحولات وهي تَعوي بين جنبيه، وسيعلم الإنسان أنه ما دامت أنفاسه تتردَّد ففي الحياة منعطفاتٌ قادمة محتملة.

ليس بالضرورة أن تكون هذه التغيرات الطارئة على صعيد الآراء والمعتقدات، وإنما هي تغيرات شخصية على مستوى الملكات الذاتية، والاستعدادات الذهنية، والطبائع النفسية، والرغبات والتطلعات، والموقف حيال الناس، وربما أيضًا تمدُّ ذراعيها الطويلتين فتفسح المجال لشيءٍ من التغيرات على مستوى الآراء والأفكار والمعتقدات.

اختبارات تحليل الشخصية:

ولِقابليَّةِ الإنسان للتغيرات المستمرَّة فإني لا أعوِّل كثيرًا على الاختبارات الشائعة التي تُجرى لتحليل الشخصيات، وبعيدًا عن اختزالها البشرية في نماذج محدودة، وعموميَّة أسئلتها، وضبابيَّة نتائِجها، إلا أنها فوق ذلك ترصد سمات الشخصية في مرحلة معيِّنة طبقًا لظروفها المتاخمة، فهي في أحسن أحوالها ترصد السِّمات في مرحلة الاختبار دون غيرها، كمن يُخرج من الثلاجة شيئًا فيقيس درجة حرارته على الفور، وهو في الحقيقة لا يقيس درجة حرارَتَه الذاتية، ولكنه يقيس درجة الحرارة العارِضة داخل الثلاجة!

وإذا لم يكن الإنسان واعِيًا بهذه التغيرات المحتملة لشخصيَّته فهذا يحجِّم من استفادته من الفرص المتلائمة مع الشخصية الجديدة، فعدمُ الوعي بما يعتمل في داخل النفس من تغيرات مستمرَّة يفوِّت الفرص الكثيرة التي تلوح للإنسان خارجَها، ويضيِّق مجال الرؤية، وكما يقول مارك مانسون في مقالِه الذي ذكر فيه حقائق عديدة عرفها حين بلغ سنّ الأربعين، وتمنى أنه أدركها في العشرين: (كن حذِرًا في كيفية تعريفك لنفسك، هويتك عبارة عن سجن عقلي شيدته بنفسك، يحصرك في حياة البحث اليائس عن الأشياء التي تثبت صحة ما اخترت أن تكونه)، وهكذا ينبغي ألَّا تكون انطباعاتُنا عن شخصياتِنا وصِفاتِنا الجبليَّة أحكامًا نهائية غيرَ قابلة للاستئناف.

بواعث مختلفة:

مرةً كنت أقرأ في كتاب (سجن العمر)، وهو سيرة ذاتية للأديب المصري الشهير توفيق الحكيم، وكان يتحدث في آخِرِها عن شخصيته المنطوية، ويذكر أن هذه الطبيعة جاءتْ مناقضةً لطبيعةِ والدته التي تحب الضوء وتكره الخمول والظلام، ثم أرسل الحكيم ملاحظةً بديعةً على شَكْلِ تساؤلٍ عابِر، وهي تتعلق بهذه التغيرات المستمرة التي لا تنقطع لشخصياتِنا تَبَعًا للظروف الخارجية، يقول توفيق الحكيم عن حكايته مع الانطواء: (أبتعد عن المآدب العامة والحفلات والدعوات والاجتماعات، حتى ليالي عرض مسرحيَّاتي ذاتها قلَّما آنس اليوم من نفسي الرغبة والدافع لحضورها، إلى حدٍّ جعل البعض يعتقد أني أتكلف ذلك تكلُّفًا، والحقيقة أني أضيق بهذا الطبع وأتأذى منه لأنه يحرمني الكثير، على أني لا أدري بعد أهو طبع ثابت عندي، أم هو إحساس طارئ لدواعي الحالة الصحية والسأم النفسي، لست أدري بعد!)، وصدق توفيق الحكيم فيما ذكر، فكثير مـمَّا نظنه طبائعَ ثابتة ونتوهَّم أنه كذلك، يكون باعثه اعتلالاتٍ صحية، أو صدماتٍ حياتية، أو إخفاقاتٍ متكرَّرة، أو حتى مجرّد نقص معادن وفيتامينات!

شخصية ابن خلدون:

لدى الباحثين في تاريخ علم الاجتماع ما يسمَّى (لغز الطفرة الخلدونية)، وهو تعليل القفزة العلمية التي أحدثها هذا الرجل في علم الاجتماع ونموّ العمران وحركة العلوم، وإن كان هذا العلم عبر القرون قد خَطَى خطواتٍ لاحقة تجاوزتْ سقفَ ابن خلدون إلا أن الرّجل قدَّم ملاحظات جوهرية سبقت زمانها بلا ريب، ولنا أن نتساءَل اليوم حينما نفحص المقدِّمة الخلدونية هذا التساؤل التالي: لولا الصدمات المتوالية التي واجهها هذا الرجل في حياته، هل كانت شخصيته العامَّة والاجتماعية البارزة سَتُؤْثِر في مرحلةٍ ما العزلة وما يشبه الانطواء عن الأضواء والبعد عن الضجيج والتفرغ للكتابة العميقة بعد أن كان غارِقًا في أمواج الحياة إلى أذنيه؟ وهل ستُفتَح له هذه الفتوح العلمية لو لم يلاقِ عدة إحباطات فيعتزل ويكتب ويدوّن بكل إقبالٍ على العلم والمعرفة؟

مِـمَّن عرض لهذه المسألة الدكتور غاستون بوتول، وهو عالم اجتماعٍ فرنسي شَغَفَه ابنُ خلدون حُبًّا، وخلاصة رأيه الربط بين الإخفاق والانزواء، والتلازم بين التصادم والانطواء، يقول بوتول: (من شأن الهرج والمرج الخَطِر الهادِر الذي دام عشرين عامًا أن يُتعبَ ابنَ خلدون دائمًا، فانزوى في قلعة صغيرة بجوار تيارت حيث انقطع للبحث أربع سنين، فهناك ألّف قسمًا كبيرًا من تاريخه العام كما وضع المقدِّمة، وكان قسم يذكر منها نتيجة تأمل وتعليمٍ لما لاقى من إخفاق). والحقيقة أني لا أستبعد أنه لو أجرى ابن خلدون في تلك السنوات الأربع اختبارًا في تحليل الشخصية لكانت النتيجة بأن القاضي عبدالرحمن ابن خلدون شخصية انطوائية تستمتع بالعزلة وتأنس بالخلوة وتستوحش من الناس، بل ربما يقال بأن لديها مقدِّمات رُهاب اجتماعي، ولا بأسَ أن يكون هذا التشخيص صحيحًا إذا كان لمرحلة معيَّنة عارضة، كما أنه لا بأس أن ينتفع المرء بهذه الاختبارات حول شخصيته إذا استحضر ما ذكرناه من قابلية الإنسان للتحولات، ووَضَع النتائج في موضِعِها الملائم.

تغيُّر المجتمعات:

وهذه التغيّرات الحتميَّة كما أنها تَعرِض للأفراد فهي تعرض كثيرًا للمجتمعات مع تحولات الظروف، فمن كان دقيقَ الملاحظة مُرهف الحسّ فإنه سيجد أن المجتمعات تشهد تحولات عميقة تنشأ عنها سماتٍ مشتركة لعامَّة أفرادِها، وأكثر ذلك بسبب تفاوت الظروف وليس لاختلاف الجوهر الإنساني، فهذا ابن خلدون نفسه يرسِل ملاحظةً دقيقةً لافِتةً في مقدِّمَتِه حول تميُّز المشارقة في زمَنه على المغاربة، ثم ينفي وجود فوارق جِبِلِيَّة، وإنما يعزو هذا التفاوت إلى اختلاف الظروف بين المشرِق والمغرِب، يقول ابن خلدون: 

(فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم، بل وفي سائر الصنائع، حتى إنه ليَظُنُّ كثيرٌ من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب، ويعتقدون التفاوتَ بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية ويتشيعون لذلك، ويولعون به، لما يرون من حِذقهم في العلوم والصنائع وليس كذلك .. وإنما الذي فَضَلَ به أهلُ المشرقِ أهلَ المغربِ هو ما يحصل في النفسِ من آثارِ الحضارة).

وليست هذه التحولات على صعيد المجتمعات مقتصرةً بطبيعة الحال على السياق العَرَبي، بل حيثما وُجِدَتْ الظروف تغيرت أحوال الناس طِبْقًا لها، وعلى سبيل المثال جاء في كتاب سيكلوجية المراهقة لستيوارت جونز وجلزمايرز إشارةٌ لافتةٌ للتحولات العميقة التي اجتالت المجتمع الأمريكي، فَغَيَّرتْ في الاستعدادات النفسية والإمكانيات الذهنية، يقول مؤلفَا الكِتاب: (إن المجتمع الأمريكي وفي الفترات الأولى من تاريخه كانت نسبة الأفراد الذين يمكن تسميتهم مراهقين أضأل كثيرًا من نسبتهم إلى مجموع السكان، ففي هذه الفترة المبكرة من تاريخ البلاد كان المرء يتزوج وهو ما يزال صغير السن نسبيًّا، كما كان يتحمل من مسؤوليات الرشدين ما لا يختص به اليوم إلا من هو أكبر سنًّا، وأما أمريكا في العصر الحاضر فإن المراهقة تمتدُّ في العادة عبر عددٍ كبيرٍ من السنوات).

فالإنسان ابنُ بيئتِه، والناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وهذه الحقيقة ليست مُقلِقَةً مِن كلِّ وجهٍ، بل هي تتضمَّن في طيَّاتها جانبًا مُشرِقًا خَلَّاقًا، فَمَن آمَن بأثر البيئات الواسع على الطبائع الإنسانية وَجَدَ منافذَ رَحْبَةً من الآمال نحو التغيير الإيجابي، بخلافِ من يَستشعر أنَّ شخصيَّته صخرةٌ ثابتة أو قدرٌ نافِذ، فلا تسهل زَحزَحة الصخور، ويستحيل تغيير الأقدار!

شارك المدونة

سليمان بن ناصر العبودي

سليمان بن ناصر العبودي

أشارك اهتماماتي المعرفية عبر هذه النافذة، محاولا تقريب المعارف وإثراء العقول بالعلم النافع.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

المزيد من المقالات

  • All
  • تأملات في الحياة
  • مسائل ومقولات
  • معارف وشخصيات
  • مهارات وأدوات
طاقات مهدَرة!

دلفت مرَّةً إلى البريد الشَّبَكي بعد انقطاعٍ عنه.. كان دخولي ذاك قُبَيل إخلادي للنوم ببضعِ دقائق، لمحتُ في أعلى البريد أن ثمة رسالة جديدة لم أفتحها، أدرت سهم النزول للأسفل، وما إن أتممتُها عن آخِرها حتى غلى الدم في عروقي

26 نوفمبر، 2024
تبعية المشي على الأقدام !

ذكرتُ مرَّةً أن المعنى الذي يتداعى في ذهني عن بدايات طلب المعارف هو"سذاجة التصورات"، فأكثر التصورات التي تنشأ في ذهن الطالب زمن البدايات جالَت فيها يد التعديل عبر رحلته العلمية الطويلة، ولو أخذ يتملَّى الآن تصوراته القديمة حول العلوم والمفاهيم والمسائل

26 نوفمبر، 2024
كرامة القلب! (جواب عابر عن دواء العشق)

الحب الوافد على القلب هو كالنار الصغيرة التي اشتعلت في الموقد، وحطبُها التواصل وتتبع الأخبار وتقليب الذكريات والركون للأفكار الخيالية والأماني البعيدة والأهواء الحالمة! فمن رام التعافي السريع منه فليقطع عنه هذا "المدد" من الحطب، وليسأل الله بإلحاح صادق واستغاثة خاشعة أن يهوّن عليه الألم "الوقتي" الذي سيشتعل في جوفه حالما تنطفئ هذه النار التي اشتعلت بلا قصد، وحينما تمسي هذا النار رمادًا فسينفخها بكلتا شفتيه وهو يتعجب…

26 نوفمبر، 2024