دلفت مرَّةً إلى البريد الشَّبَكي بعد انقطاعٍ عنه.. كان دخولي ذاك قُبَيل إخلادي للنوم ببضعِ دقائق، لمحتُ في أعلى البريد أن ثمة رسالة جديدة لم أفتحها، أدرت سهم النزول للأسفل، وما إن أتممتُها عن آخِرها حتى غلى الدم في عروقي
القراءة الممتعة!
- 2 يونيو، 2017
بسم الله الرحمن الرحيم
القراءة الممتعة هي أكثر ما يبقى ويؤثر في النفس والعقل والروح، وهي أدوم ما يبقى ويرسخ في الذاكرة، وهي التي يسهل استدعاء المعارف المتصلة بها، بل وتوليد معارف أخرى منها، الكتاب الذي نقرؤه مجرد إلزامٍ قسري للنفس ونشعر ونحن نمسكه أننا أمام هذرمة مملَّة لمؤلف ثرثار، لا نكاد نذكر منه شيئًا بعد شهور فضلا عن سنوات، هذه حقيقة نجدها جميعا في أنفسنا وإن لم نعبِّر عنها.
إذا رمنا أن نجعل مطالعاتنا المعرفية منتجةً ودائمة فيجب علينا أن نسعى سعيًا حثيثًا لأن نستمتع بما نقرؤه ونتعلمه من الفنون، ينبغي أن تكون المتعة هدفًا ولو بعيد المدى مع ما نرسمه لأنفسنا من علوم وكتب وبرامج، لأنه بهذه المتعة تتضاعف طاقاتنا في التحصيل ويستمر النهر في الجريان.
إذا أردت أن تعرف هل أنت تستمتع في مطالعة فنٍّ ما أو كتابٍ ما فانظر إلى جوابات التساؤلات التالية:
هل يمكن أن تفكر به حتى في غير الأوقات المحددة للقراءة؟ هل يحصل أنك تفتح ذلك الكتاب لا إراديًّا أحيانا؟ هل يحدث أنك تتجاوز الصفحات المحددة لكل يوم بلا شعور؟
لي صديق يحفظ تفاصيل دقيقة متعلقة بأحداثٍ يومية بصورة تبعث على الدهشة، حتى إنه ليستطيع وهو مسترخٍ على أريكة أن يسرد دون انقطاع معارف متعلقة بالأخبار اليومية والوقائع الآنية، وهذا الصديق يطلب علومًا نافعة في شطر يومه الباقي، لكن المفارقة اللطيفة أنه لا يستحضر كثيرًا مما يقرؤه في هذا المجال، كأن ذهنه الوقاد ينطفئ إذا أراد تشغيل الجانب الآخر منه! وكأن خيوله لا تركض إلا في اتجاه واحد!
لننظر لأنفسنا نحن لماذا نجد طرف إبهامِنا في أثناء تقليب شبكات التواصل لا يفتر عن اللمس والدفع نحو الأعلى طلبًا للمزيد، بينما كثير من الكتب التي قررنا أنها مفيدة نمسكها عنوةً ونحدق في ساعة الحائط مرارا ونحن نقرؤها لأننا ننتظر انتهاء الساعة أو الساعتين المحددة للقراءة!
كم مرةً وجدت نفسك تخرج جهازك من جيبك وتفتح تطبيقًا تواصليًّا دون وعيٍ تامٍّ بحركة اليد كأنما هي حركة لا إرادية، بينما لا يحصل مثل هذا السلوك التلقائي مطلقًا ولا قريب منه مع الفن الذي نلزم أنفسنا بدراسته!
لماذا بعض قراءاتنا نشعر بأنها ممتعة رغم كونها تخصصية في مجالات دقيقة وفيها تفاصيل معقدة؟ بينما تتبخر هذه المتعة وتتحول القراءة لعملية مجاهدة ومعاناة ومكابدة في مجالات أخرى!
هناك أجوبة قريبة تسبق إلى الذهن تتعلق بخفَّة المعارف التواصلية، بينما المعارف التي نقرِّرُها لأنفسنا غالبا ما تكون ثقيلة، لذا نستمتع في الأولى دون الأخرى، وفي الحقيقة أن هذا الجواب -الذي يبدو منطقيّا لأول وهلة- لا يصمد أمام البحث العميق والنظر الدقيق، فهناك مَن يستمتع بمطالعة علوم يستثقلها غيره، وهناك من لا يطيق إدامة النظر في المعارف التواصلية مع أنه يجرد علوما في غاية التخصص والوعورة.
السبب الحقيقي الذي يقف وراء المتعة العقلية في مطالعة الفنون والكتب، هو أن هذه المتعة مرتبطة بالأرضية المسبقة لكل علم، ومتعلقة بالارتباطات الشرطية لكل فن، ومتصلة بالقوالب الذهنية المرتبطة بهذا الكتاب أو المؤلف أو الفنّ!
وهذه الارتباطات الشرطية والقوالب الذهنية تتخلّق من عاملين رئيسين:
- الإرغام
- الصوم.
١- إرغام النفس على القراءة المتواصلة في المجال الجديد حتى تستقر البذور في باطن تربة النفس، وتتصلب جذوع الارتباطات الذهنية، وتستقر القوالب العقلية لهذا العلم أو مواضيع ذلك الكتاب، وكل هذه تنشأ مع المعايشة والتفتيش وإدامة النظر، ولا شك أن المتعة المعرفية في أي فن إنما تتوالد من هذا العامل، وكلُّ من تكلم عن لذة العلم من العلماء ومن دونهم فإنما هو آخذٌ من هذا العاملِ المؤثر بطرفٍ، وربما كثير منّا لا يقصر في هذا الجانب، وإنما يأتي أكثر التقصير مع العامل الثاني.
٢- الصوم -قدر الإمكان ولو نسبيًّا- عن غيره من التفاهات، أو حتى المطالعات الأخرى المزاحمة ولو لم تكن تافهة! حتى تذبل قيمتها في النفس فتزول تدريجيًّا شرائطها الذهنية وقوالبها العقلية، فإن طاقة النفس محدودة بطبيعتها، وإن كثرة تداول العملة الرديئة يطرد العملة الجيدة، ولا جرم أنه يؤثر في قيمتها!
وكثيرون حين استعصى عليهم تطبيق هذين العاملين، وعزّ عليهم فوات حظهم من القراءة والاطلاع، لا سيما حين رمقوا القراء يجرون عرباتهم المتدفقة بالكتب، ثم رأوا إنتاج الموفّقين منهم؛ فإنهم سلكوا طريقًا أيسر وأقصر ولكنه غير منتجٍ مطلقًا، فحينما فقدوا المتعة في القراءة الجادَّة في الفنون المنتجة، طلبوها من الروايات والمطالعات القليلة الجدوى والعائدة، وأسبغوا على هذا النمط من القراءات ثوبًا فضفاضًا من عبارات الإشادة والثناء، ويُشعِرون غيرهم أنهم على شيءٍ .. فحينما انغلق عليهم سبيل الاستمتاع بالجاد حرفوا وجهتهم واستجادوا الممتع!
شارك المدونة
سليمان بن ناصر العبودي
أشارك اهتماماتي المعرفية عبر هذه النافذة، محاولا تقريب المعارف وإثراء العقول بالعلم النافع.
المزيد من المقالات
- All
- تأملات في الحياة
- مسائل ومقولات
- معارف وشخصيات
- مهارات وأدوات
ذكرتُ مرَّةً أن المعنى الذي يتداعى في ذهني عن بدايات طلب المعارف هو"سذاجة التصورات"، فأكثر التصورات التي تنشأ في ذهن الطالب زمن البدايات جالَت فيها يد التعديل عبر رحلته العلمية الطويلة، ولو أخذ يتملَّى الآن تصوراته القديمة حول العلوم والمفاهيم والمسائل
الحب الوافد على القلب هو كالنار الصغيرة التي اشتعلت في الموقد، وحطبُها التواصل وتتبع الأخبار وتقليب الذكريات والركون للأفكار الخيالية والأماني البعيدة والأهواء الحالمة! فمن رام التعافي السريع منه فليقطع عنه هذا "المدد" من الحطب، وليسأل الله بإلحاح صادق واستغاثة خاشعة أن يهوّن عليه الألم "الوقتي" الذي سيشتعل في جوفه حالما تنطفئ هذه النار التي اشتعلت بلا قصد، وحينما تمسي هذا النار رمادًا فسينفخها بكلتا شفتيه وهو يتعجب…