العيش في عصر الرداءة

بسم الله الرحمن الرحيم

عامَّة الأشياء التي يصنعها البشر في هذا العالم تسوء تدريجيًّا، تتلون بثوبٍ حالك الأديم، تفتقد شيئا فشيئًا لعناصر الإتقان والبراعة، تتجه بسرعة مع مرور الزمن نحو منحدر الرداءة، لعلك أدمنتَ هذه النبرة الجنائزية الحزينة منذ وعيتَ نفسك.
في كل مكان هناك شعور جمعي عميق باستفحالِ الضعف وشيوع الهزال، ولا يقتصر هذا الضعف على عالم الأخيار وهمومهم في هذا الكوكب، بل حتى لو أرخيت سمعك في الأحياء القديمة المهجورة لسمعتَ من يرثي أولئك التجار الأمناء الذين كانوا يوردون للزبائن حبوب مخدِّرة غير مغشوشة!

اختفى من عالمنا أولئك اللصوص الأوائل الذين يسرقون دراهمك بحيل عبقرية أو بخفَّة يدٍ وجمالِ أسلوبٍ يسعدك قبل أن يسلب ما في جيبك، وبقي هؤلاء الذين يراسلونك من غامبيا أو النيجر ليخبروك أنك مسهورٌ بسهرٍ أسود ولا يمكن أن تُحَلَّ تلك العقد إلا بتسليمهم أرقام الحساب.

حتى لو حدث لك ارتطامٌ يسيرٌ بسيارتك فتفاجأت أن شطر السيارة الأمامي انعدم، وأنك بحاجة إلى تكلفةٍ عاليةٍ لاستصلاحه؛ لسمعتَ من يقول لك وأنت تفتش في آثار الصدمة متألِّمًا: هذه السيارات الجديدة كرتونية، فقد ذهبت تلك السيارات الشاصيَّة القديمة المتينة، فالتقدم الصناعي التقني إنما كان يمنح المصانع الحديثة قدرةً هائلة على إخفاء الرداءة والضعف في قالبٍ خارجيٍ جميل!

حتى لو أردت أن تشتري مكيفات تبريد لجاءك أهل الخبرة وهمسوا في أذنك أن الأجهزة الجديدة ليس فيها دينمو كالقديمة، فحاولْ أن تجد في بعض المحلات بعض القطع القديمة المخزنة! وهكذا يستحوذ على الجميع مشاعر عميقة باندثار الجيد واضمحلال المتقن.

إذا أردت الزواج وجدت من يهمس لك بتقليص عامة الشروط والتمسك بشرط كونها امرأة، وذلك لأن أولئك النساء اللاتي تبحث عنهن قد توارين خلف تراب المقابر، فاقنع بالموجود لئلا تظلَّ فردًا كالبعير الأجرب.
وهكذا الرجل الذي كان في حقبةٍ ماضية حري إن خطب أن لا يزوج وإن شفع أن لا يشفع أمسى اليوم مؤهل الوظيفة أو الوضع المادي وحده بعيدًا عن الخلق والدين كافيًا لفتح كافة الأبواب له!

إذا قرأت الأطروحات الفكرية السطحية المنحرفة فإنك تفهم حينها جيدًا عبارة الشيخ المعلمي حينما قال عن خصمه: (كنا نودّ لو أعرض عن الشبهات التي قد سُبِقَ إليها فحُلَّت وانحلَّت واضمحلَّت، واقتصر على الشبهات الأبكار التي يجد لذّةً في اختراعها، ويجد أهلُ العلم لذةً في افتراعها!).

إذا رأيت منسوبًا إلى العلم يتجاوز مناقشة الأدلة العلمية ويقفز نحو التهم الصحفية الرديئة الخالية من البرهنة كلمز الخصوم بالتأدلج والتحيز فتشد طرف ثوبك وتلتزم الصمت لأنك توقن أن الرداءة مدت رواقَها الطويل ودقت أطنابها في عالمنا، فتعيد قلمك إلى موضعه لأنك لا تجد كلامًا علميًّا قابلا للمناقشة، وإنما غاية ما تفعله أن تقول في سِرِّك: إذا ضعفت القدرة على سبك البراهين حضرت الإنشائيات بكثافة، فاللهم اضرب الإنشائيين بالإنشائيين وأخرجنا من بينهم برهانيين!

رداءة مستحكمة تبسط أذرعتها الطويلة في كلِّ اتجاه، وذلك في كل المجالات تقريبًا، حتى في مجال الشخصيات العلمية، فمنذ سنوات بعيدة كلما رحل عن دنيانا علمٌ من الأعلام في أي مجال علمي أو أدبي أو غيره فلا تخطئ عينك من يكتب تحت إعلان موته: رحيل آخر الكبار! فلم يبق لنا عمليًّا عند الجميع إلا عالم صغيرٍ يموجُ بالصغار!

لست أنفي أن شيئًا من هذه التعليقات نابع من نفوسٍ تعاني من قراءة مثاليَّة للماضي عمومًا، قراءةٍ ساذجةٍ تفخِّم الماضي وتخلع عليه على الدوام أوصاف متعالية على الحقائق التاريخية، هناك نفوس تشتكي من وَصَبِ الحنين إلى الماضي، فحتى لو كانوا تعساء عندما كان ذلك السالف حاضرًا، فإنه بمجرد كونه زمنًا ماضيًا ينقلب في رؤيتهم إلى عالم ورديٍّ سعيد، فهم يعيدون إنتاج التاريخ طِبقًا لهوى النفوس، بل إنَّ الكلام عن فساد الزمان غريزة إنسانية متأصِّلة وعادة بشرية مستحكمة، فتجد في معنى الشعر اليسير المنسوب لآدم عليه السلام التوجع من التغيرات الطارئة على البلاد والعباد.

تغيرتِ البلادُ وَمَن عليها ** فوجهُ الأرض مغبرٌّ قبيحُ

كلُّ هذا لا ننفي وجودَه، ولكننا بالمقابل نلحظ بالفعل أن الجودة والرصانة والإتقان في عصرنا في تناقص واضمحلال تصاعدي، وأن السؤال عن مستوى الكيف ومدى العمق في خفوت تدريجي مستمر، فلذلك يغتر الناس بالظواهر ويخلعون على أمثالنا ثيابًا سابغة من إحسان الظن، فإذا رأيتم في أيامنا صاحبَ صبرٍ على تدقيق المعارف وتحقيق العلوم فأكرموا وِفادَتَه، واغتفروا عثراتِه، فإنه يمشي فوق أرضٍ مَلْساء زلقة منحدرة .. كل ما فيها يدفعه إلى السقوط في وحل السطحية والرداءة!

شارك المدونة

سليمان بن ناصر العبودي

سليمان بن ناصر العبودي

أشارك اهتماماتي المعرفية عبر هذه النافذة، محاولا تقريب المعارف وإثراء العقول بالعلم النافع.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

المزيد من المقالات

  • All
  • تأملات في الحياة
  • مسائل ومقولات
  • معارف وشخصيات
  • مهارات وأدوات
طاقات مهدَرة!

دلفت مرَّةً إلى البريد الشَّبَكي بعد انقطاعٍ عنه.. كان دخولي ذاك قُبَيل إخلادي للنوم ببضعِ دقائق، لمحتُ في أعلى البريد أن ثمة رسالة جديدة لم أفتحها، أدرت سهم النزول للأسفل، وما إن أتممتُها عن آخِرها حتى غلى الدم في عروقي

26 نوفمبر، 2024
تبعية المشي على الأقدام !

ذكرتُ مرَّةً أن المعنى الذي يتداعى في ذهني عن بدايات طلب المعارف هو"سذاجة التصورات"، فأكثر التصورات التي تنشأ في ذهن الطالب زمن البدايات جالَت فيها يد التعديل عبر رحلته العلمية الطويلة، ولو أخذ يتملَّى الآن تصوراته القديمة حول العلوم والمفاهيم والمسائل

26 نوفمبر، 2024
كرامة القلب! (جواب عابر عن دواء العشق)

الحب الوافد على القلب هو كالنار الصغيرة التي اشتعلت في الموقد، وحطبُها التواصل وتتبع الأخبار وتقليب الذكريات والركون للأفكار الخيالية والأماني البعيدة والأهواء الحالمة! فمن رام التعافي السريع منه فليقطع عنه هذا "المدد" من الحطب، وليسأل الله بإلحاح صادق واستغاثة خاشعة أن يهوّن عليه الألم "الوقتي" الذي سيشتعل في جوفه حالما تنطفئ هذه النار التي اشتعلت بلا قصد، وحينما تمسي هذا النار رمادًا فسينفخها بكلتا شفتيه وهو يتعجب…

26 نوفمبر، 2024